فصل: سورة الشورى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (46- 54):

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ} نفعه. {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ضره. {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} أي إذا سئل عنها إذ لا يعلمها إلا هو. {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَةٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} من أوعيتها جمع كم بالكسر. وقرأ نافع وابن عامر وحفص {مِن ثمرات} بالجمع لاختلاف الأنواع، وقرئ بجمع الضمير أيضاً و{مَا} نافية و{مِنْ} الأولى مزيدة للاستغراق، ويحتمل أن تكون موصولة معطوفة على {الساعة} و{مِنْ} مبينة بخلاف قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ} بِمكان. {إِلاَّ بِعِلْمِهِ} إلا مقروناً بعلمه واقعاً حسب تعلقه به. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى} بزعمكم. {قَالُواْ ءَاذَنَّاكَ} أعلمناك. {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا عنهم لما عاينا الحال فيكون السؤال عنهم للتوبيخ، أو من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنا. وقيل هو قول الشركاء أي ما منا من يشهد لهم بأنهم كانوا محقين.
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ} يعبدون. {مِن قَبْلُ} لا ينفعهم أو لا يرونه. {وَظَنُّواْ} وأيقنوا. {مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} مهرب والظن معلق عنه بحرف النفي.
{لاَّ يَسْئَمُ الإنسان} لا يمل. {مِن دُعَاءِ الخير} من طلب السعة في النعمة، وقرئ: {من دعاء بالخير}. {وَإِن مَّسَّهُ الشر} الضيقة. {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} من فضل الله ورحمته وهذا صفة الكافر لقوله: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} وقد بولغ في يأسه من جهة البنية والتكرير وما في القنوط من ظهور أثر اليأس.
{وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} بتفريجها عنه. {لَيَقُولَنَّ هذا لِى} حقي أستحقه لمالي من الفضل والعمل، أولي دائماً لا يزول. {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} تقوم. {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} أي ولئن قامت على التوهم كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة، وذلك لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفك عنه. {فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ} فلنخبرنهم. {بِمَا عَمِلُواْ} بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} لا يمكنهم التقصي عنه.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} عن الشكر. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وانحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبراً، والجانب مجاز عن النفس كالجنب في قوله: {فِى جَنبِ الله} {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} كثير مستعار مما له عرض متسع للاشعار بكثرته واستمراره، وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله؟
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} أخبروني.
{إِن كَانَ} أي القرآن. {مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} من غير نظر واتباع دليل. {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي من أضل منكم، فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم.
{سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الأفاق} يعني ما أخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام به من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة. {وَفِى أَنفُسِهِمْ} ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة. {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} الضمير للقرآن أو الرسول أو التوحيد أو الله {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ} أي أو لم يَكف ربك، والفاء مزيدة للتأكيد كأنه قيل: أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى. {أَنَّهُ على كُلّ شَئ شَهِيدٌ} بدل منه، والمعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة، أو مطلع فيعلم حالك وحالهم، أو لم يكف الإنسان رادعاً عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية.
{أَلاَ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ} شك، وقرئ بالضم وهو لغة كخفية وخفية. {مّن لّقَاء رَبّهِمْ} بالبعث والجزاء. {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَئ مُّحِيطُ} عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات».

.سورة الشورى:

مكية وهي ثلاث وخمسون آية وتسمى سورة الشورى.

.تفسير الآيات (1- 10):

{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)}
{حَمَ}. {عَسَقَ} لعله اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين، وإن كانا اسماً واحداً فالفصل ليطابق سائر الحواميم، وقرئ: {حم سق}.
{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} أي مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو إيحاء مثل إيحائها أوحى الله إليك وإلى الرسل من قبلك، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير {يُوحَى} بالفتح على أن كذلك مبتدأ و{يُوحَى} خبره المسند إلى ضميره، أو مصدر و{يُوحَى} مسند إلى إليك، و{الله} مرتفع بما دل عليه {يُوحَى}، و{العزيز الحكيم} صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به كما مر في السورة السابقة، أو بالابتداء كما في قراءة {نوحي} بالنون و{العزيز} وما بعده أخبار أو {العزيز الحكيم} صفتان. وقوله: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم} خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته.
{تَكَادُ السموات} وقرأ نافع والكسائي بالياء. {يَتَفَطَّرْنَ} يتشققن من عظمة الله، وقيل من ادعاء الولد له. وقرأ البصريان وأبو بكر {ينفطرن} بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر، وقرئ: {تتفطرن} بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر. {مِن فَوْقِهِنَّ} أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى. وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس. {والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرض} بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإِلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة. {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته.
{والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} شركاء وأنداداً. {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها. {وَمَا أَنتَ} يا محمد. {عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} الإِشارة إلى مصدر {يُوحِى} أو إلى معنى الآية المتقدمة، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولاً به و{قُرْءاناً عَرَبِيّاً} حال منه.
{لّتُنذِرَ أُمَّ القرى} أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى. {وَمَنْ حَوْلَهَا} من العرب. {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح، أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعول الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإيهام التعميم، وقرئ: {لينذر} بالياء والفعل (للقرآن). {لاَ رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له من الإعراب. {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولاً ثم يفرقون، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب.
{وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة} مهتدين أو ضالين. {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ في رَحْمَتِهِ} بالهداية والحمل على الطاعة. {والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه، ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإِنذار.
{أَمِ اتخذوا} بل اتخذوا. {مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} كالأصنام. {فالله هُوَ الولى} جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق. {وَهُوَ يُحْيِى الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} كالتقرير لكونه حقيقاً بالولاية.
{وَمَا اختلفتم} أنتم والكفار. {فِيهِ مِن شَئ} من أمر من أمور الدنيا أو الدين. {فَحُكْمُهُ إِلَى الله} مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة. وقيل: {وَمَا اختلفتم فِيهِ} من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله. {ذَلِكُمُ الله رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في مجامع الأمور. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} إليه أرجع في المعضلات.

.تفسير الآيات (11- 19):

{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}
{فَاطِرُ السموات والأرض} خبر آخر ل {ذلكم} أو مبتدأ خبره. {جَعَلَ لَكُمُ} وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله. {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم. {أزواجا} نساء. {وَمِنَ الأنعام أزواجا} أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجاً، أو خلق لكم منَّ الأنعام أصنافاً أو ذكوراً وأناثاً. {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس، و{الأنعام} على تغليب المخاطبين العقلاء. {فِيهِ} في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد، فإنه كالمنبع للبث والتكثير. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: أَلاَ وَفِيهِمْ الطَّيِّبُ الطَاهِرُ لِذَاتِهِ. ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى {لَّيْسَ مّثْلِهِ} غير أنه آكد لما ذكرناه. وقيل: {مثله} صفته أي ليس كصفته صفة. {وَهُوَ السميع البصير} لكل ما يسمع ويبصر.
{لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} خزائنها. {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} يوسع ويضيق على وقف مشيئته. {إِنَّهُ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} فيفعله على ما ينبغي.
{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} وهو الإِيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول {شَرَعَ}، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع مختلفة كما قال: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} {كَبُرَ عَلَى المشركين} عظم عليهم. {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من التوحيد. {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ} يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين. {وَيَهْدِى إِلَيْهِ} بالإِشارة والتوفيق. {مَن يُنِيبُ} يقبل إليه.
{وَمَا تَفَرَّقُواْ} يعني الأمم السالفة. وقيل أهل الكتاب لقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ العلم} العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} عداوة أو طلباً للدنيا. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَّبّكَ} بالإِمهال.
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المبطلين حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا. {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب. وقرئ: {ورثوا} و{ورثوا}. {لَفِى شَكٍّ مّنْهُ} من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن. {مُرِيبٍ} مقلق أو مدخل في الريبة.
{فَلِذَلِكَ} فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب، أو العلم الذي أوتيته. {فادع} إلى الاتفاق على الملة الحنيفية أو الاتباع لما أوتيت، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإِفادة الصلة والتعليل. {واستقم كَمَا أُمِرْتَ} واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الباطلة. {وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب} يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. {وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في تبليغ الشرائع والحكومات، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية. {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} خالق الكل ومتولي أمره. {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} وكل مجازى بعمله. {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد. {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة. {وَإِلَيْهِ المصير} مرجع الكل لفصل القضاء، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال.
{والذين يُحَآجُّونَ في الله} في دينه. {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به. {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ} زائلة باطلة. {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} لمعاندتهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} على كفرهم.
{الله الذي أَنزَلَ الكتاب} جنس الكتاب. {بالحق} ملتبساً بعيداً من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام. {والميزان} والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوى بين الناس، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب، أو لأن الساعة بمعنى البعث.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} استهزاء. {والذين ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} أي الكائن لا محالة.
{أَلآَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ في الساعة} يجادلون فيها من المرية، أو من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. {لَفِى ضلال بَعِيدٍ} عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.
{الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} بر بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام. {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} أي يرزقه كما يشاء فيخص كلاً من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته. {وَهُوَ القوى} الباهر القدرة. {العزيز} المنيع الذي لا يغلب.